صفحات مشرقة من تاريخ المقاومة في الحوض الشرقي بقلم : أ. د إسلكو ولد أحمد إزيد بيه

صفحات مشرقة من تاريخ المقاومة في الحوض الشرقي
بقلم : الأستاذ الدكتور إسلكو ولد أحمد إزيد بيه
رئيس مجلس جائزة شنقيط
أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الرابعة والستين لعيد الاستقلال الوطني، واحتفاء بهذه الذكرى المجيدة، أقترح عليكم نصوصا قصيرة عن مقاومة “الكدية” (1912-1917)، بزعامة المرحوم الشيخ ولد عبدوكه، اعتمادا على المرويات الشفهية لدى الأوساط الشعبية المعنية ؛ ففي اعتقادي، أن هذه المرويات لا تقل مصداقية أو موضوعية عن تلك التي سطرها كتاب مثل بول مارتي…
في ظروف صعبة للغاية، خاض “أهل الكديه” معارك بطولية ضد المستعمر، منها : الفرفارات، تگيگل، الشلخه، زوروقو، اجريف، انيايه، اخويبت الما، كوصه، ريني…
حدثتكم المرة الماضيه عن إحدى آخر هذه المعارك، “گاسي لكلال” التي استشهد فيها أحد أهم المقاومين المرحوم اعلاتي ولد اگيه، وأورد لكم في ما يلي نصا مقتضبا عن هجوم “الشلخه”.
هجوم “الشلخه”
على بعد حوالي عشرة كيلومترات جنوب مدينة النعمه، ينتصب جبل الراجاط المهيب، الذي شكلت متاهة كهوفه ملجأ مفضلا لدى مقاتلي “الكديه”.
حكى المرحوم الشيخ ولد عبدوكه، فقال إنه، بعد أن لاحظ النفاد التام للمؤن الموجودة بحوزته ورفاقه، بسبب الطوق المحكم الذي فرضته القوات الاستعمارية على المقاومين المتحصنين في كهوف جبل الراجاط، قرر القيام بعملية “جريئة” لفك الحصار الذي كان يتهدد المقاومة. وتنفيذا لهذه المهمة، اختار حفنة من أنصاره، من بينهم رفيقه في الساعات الأولى، اعلاتي ولد اگيه وشقيقه ازوين ولد عبدوكه ؛ وطلب من الآخرين البقاء في الكهوف وعدم الخروج منها إلا إذا علموا بوفاته…
وبفضل معرفتهم الجيدة بتضاريس المنطقة، لم ينجح مقاتلو المقاومة في اكتشاف “قبعات” أعدائهم دون إثارة انتباههم فحسب، بل تمكنوا من الاقتراب منهم بشكل كبير، زحفا على بطونهم. وحكى الشيخ أن أخاه ازوين كان معروفا بسرعة الضغط على الزناد ؛ ولكي يجعله ينتظر الوقت المناسب، قرر أن يمسك باستمرار بفوهة بندقيته، خلال مناورة الاقتراب من جنود الاستعمار، تجنبا لإطلاق نار غير محسوب. أشار الشيخ بسرعة إلى كل مقاتل بهدفه وأعطى الأمر بإطلاق النار، فتم قتل ثمانية جنود على الفور وتجريدهم من أسلحتهم، وانطلق التاسع يركض بسرعة، في اتجاه موقع النعمه. طارد الشيخ، الذي كان رياضيا ذا لياقة بدنية ممتازة، الجندي الفار ؛ وأورد بهذا الخصوص : “كنت كلما اقتربت من أحد مجاري المياه الخريفية، أرمق الجندي الفار وهو على الجانب الآخر من المجرى، يركض بسرعة كبيرة.” أدرك الشيخ أنه أصبح من المستحيل بالنسبة له اللحاق بالجندي الهارب، فقرر إطلاق النار عليه عندما كان يهم بصعود مرتفع “الشوفيه”، القريب من الموقع العسكري الاستعماري بالنعمه، فأصابه في ظهره. وعندما اقترب منه، قال الشيخ إنه لاحظ أن الجندي كان يحاول الانتصاب دون إثارة الانتباه، فقرر إطلاق النار مرة ثانية، خوفا من أن يتم استهدافه من قبل الجندي الجريح. لاحظ الشيخ أن الجندي شاب من قومية معروفة إقليميا، فجرده من سلاحه، قبل أن يعود أدراجه.
وفور عودته رفقة مفرزته الصغيرة، ورغم أنها لم تسجل خسائر في صفوفها، قرر الإفلات من الطوق المضروب حوله، فتحرك برفاقه في الاتجاه الجنوب-غربي، صوب منطقة الخط، غير بعيد من أنقاض العاصمة الأسطورية لإمبراطورية غانا، بدلا من التوجه نحو سلسلة جبال النعمه القريبة إلى الشمال-الشرقي والتي اعتاد مقاتلو المقاومة الاحتماء داخلها ؛ لقد فهموا أن عدوهم ينتظرهم بحزم ويتوقع تحركهم نحو السلسلة الجبلية بدل الأراضي المفتوحة.
وتم تخليد هذه العملية التكتيكية الناجحة : فالوادي الضيق الذي لقي فيه الجنود الاستعماريون الثمانية حتفهم، لا يزال يحمل اسم “شلخة اصنادره” (وادي الجنود)…”
كما خلد ازوين هذا الانسحاب الذكي ببيت شعري لهجي (گاف) يفيض حنينا إلى “الراجاط”
“كديتنا ذيللي بلا خلاطْ# وانت هي اخيار كدانَ
بسم الله يالراجاطْ # ودعناك المولانَ…”
استشهاد اعلاتي
وفقا للتقاليد الشفهية، أصيب المرحوم اعلاتي ولد اگيه بجروح خطيرة، خلال اشتباك عنيف وقع في مكان يُدعى “گاسي لكلال”، قرب موقع القرية المالية الحالية لرنب، على بعد حوالي 250 كيلومترا إلى الشرق من موقع مدينة باسكنو الحالية. وبحسب ما رواه المرحوم محمد ولد المعلوم، الفقيه والوجيه الذي كان يكن له الجميع الاحترام، الإمام السابق لمسجد قرية “العدالة”، فإن زعيم المقاومة بالحوض الشرقي، المرحوم الشيخ ولد عبدوكه زاره مرة وروى له ظروف وفاة رفيقه اعلاتي، عبر الحوار التالي:
الشيخ: «ابن عمك (ول عمّك) سلحنا في حياته، وسلحنا بعد وفاته».
محمد: “أنا أفهم أنه يستطيع أن يزودكم بالسلاح وهو حي، ولكن كيف يمكنه أن يسلحكم بعد وفاته؟”
الشيخ: “طلقات “ابن عمك” كانت دقيقة إلى حد تزويدنا بشكل دائم بسلاح أي عميل للاستعمار يستهدفه، إذ كان يرديه قتيلا، فنأخذ سلاحه.
وعندما أصيب بجروح خطيرة خلال معركة “گاسي لكلال”، وفهم أنه محكوم عليه بالموت البطيء، أمرني بالانسحاب مع المقاومين الذين ما زالوا على قيد الحياة. فأجبته أنني أفضل الموت على مغادرته وهو في الوضعية الحرجة التي كان يوجد فيها. فأجابني أن الأمر يتعلق بحكم شرعي، من الواجب علي تنفيذه بدقة، لإنقاذ الأرواح البشرية، لأنه، اعتبارا لقوة نيران العدو والخسائر البشرية المسجلة بالفعل في صفوف المقاومة، لم يعد هناك شيء آخر يمكن القيام به هذه المرة. فقررت، والحزن يكاد يمزق قلبي، أن أحترم تعليمات رفيقي اعلاتي. وقبل أن أغادره، طلب مني أن أترك له سبع قطعة ذخيرة، وهو ما فعلته على الفور”.
محمد: “مازلت لا أفهم الأسلحة بعد الموت…”.
الشيخ: “انتظر!، القصة لم تنته بعد!. وبعد أيام قليلة عدت إلى مسرح هذه المعركة الضارية، فكانت دهشتي كبيرة عندما رأيت خمس جثث متعفنة للمستعمرين بملابسهم العسكرية وأسلحتهم، عند مدخل الكهف حيث كانت توجد جثة “ابن عمك” وبندقيته وذخيرتان غير مستخدمتين. لقد استنتجت أنه تعرض بعد مغادرتنا له لهجوم من قبل جنود الاستعمار، وأنه أطلق النار عليهم وقتل خمسة منهم وأنه نجح، رغم حالته اليائسة، في دحرهم وإجبارهم على الفرار، دون أن يتمكنوا من أخذ قتلاهم معهم، أو على الأقل أسلحة ضحاياهم. فبهذه الطريقة، وفر لنا كل هذه الأسلحة التي كنا في حاجة ماسة إليها، بعد وفاته.”
ملاحظة لغوية تمهيدية : كلمة “الخوبه” دخلت القاموس الحساني مع قدوم الاستعمار في بداية القرن الماضي، وتعني بناية إدارية. بحثت عن الأصل اللغوي لهذه الكلمة، فلم أجد له ذكرا في أي مرجع ؛ وأعتقد، والله تعالى أعلم، أن أصل هذه الكلمة قد يكون “گوبول” (coupole) التي تعني “القبة” ؛ والأصل الكلمة العربية. وهذا يعني أن “الخوبه” هي في الواقع “بضاعتنا (اللغوية) ردت إلينا” دون أن نشعر، مثلها “المگزينه” (المخزن) وغيرها…
عملية “الخويبه”
“الخويبه” تصغير لكلمة “الخوبه”، ويمكن اعتبارها إحدى أولى المنشآت الثابتة التي شيدها الاستعمار في الحوض الشرقي، عند “راص الما”؛ وحسب النصوص ذات الصلة، قد تكون أول محطة للبرق (التلغراف أو “السلك” بالحسانية).
لقد فهمت مقاومة “الكديه” مبكرا أن لهذه المنشأة دورا في تسهيل التوغل الاستعماري داخل منطقة الحوض الشرقي، فقررت تدميرها.
تمكن حراس “الخويبه” من أن يلوذوا بالفرار قبيل العملية، ولعل بعض الموالين أخبروهم بها فلم يجد المقاومون، وعلى رأسهم الشيخ ولد عبدوكه، صعوبة تذكر في تسوية المنشأة أرضا بالكامل. ووجدت المقاومة الوقت الكافي لانتزاع أكبر كمية ممكنة من الكابلات المعدنية بغية صهرها لاحقا لدى الصناع التقليديين وتحويلها إلى ذخيرة حية…
تمخضت هذه العملية عن أغنية (شور) تلقفته الأوساط الشعبية الداعمة للمقاومة :
“عنك يالسلك امش گولهَ، عنك يالسلك امش گولهَ…”.
ويروي أول بيت شعري لهجي (گاف) في هذا “الشور”، أبدعه ازوين، قصة الهجوم على “الخويبه” :
“الخويبه اخلاتْ، وانگطع مولهَ # وِلا ابتناتْ، انولّولهَ”…
معركة “ظايت زوروقو”
وصل المقاومون جياعا ومرهقين، بعد رحلة شاقة انطلاقا من “الراجاط”، إلى “ظايت زوروقو” وهي بحيرة ماء سطحية في منطقة الخط، قرب “الصحبي” (كومبي-صالح). بأمر من الشيخ ولد عبدوكه، تسلق أحد المقاومين الشجرة الضخمة التي كانت تأويهم وجلس على أحد أغصانها يراقب الأفق…
شغل البعض بتحضير الطعام والبعض الآخر بغسل الثياب وتعبئة القرب الفردية ماء. وفجأة، تعرض الموقع لإطلاق نار كثيف من الشرق ؛ هل اهتم الخفير “المنهك” بمشهد طهي اللحم تحت الشجرة، أكثر من مراقبة محيط الموقع ؟… ربما، حسب بعض المرويات الشفهية ذات الصلة. كل ما في الأمر، أن المفاجأة كانت تامة وأنه تم استشهاد مقاومين على الفور، الشيء الذي هدد التماسك حول الشيخ ولد عبدوكه، إذ لاحظ أن الدائرة الضيقة وحدها صمدت… عندها صاح بعتابه الخالد : ” الخلطه هاذي ما هي حالت مده هامها اتصوع انصاره من أرض البيظان !…”، فتجاوز المقاومون، إلى حد ما، الصدمة الأولى.
تموقع الشيخ واعلاتي بسلاحيهما، خلف نفس تل النمل (تمبصكايه)، غير بعيد من مقاومين آخرين من بينهم ازوين ؛ وانتظم تبادل إطلاق النار بين الجانبين، الشيء الذي أوقف تقدم القوة المهاجمة. روى الشيخ أن إطلاق النار كان مركزا وكثيفا على تل النمل المذكور، فكان وقع كل ذخيرة على هذا النصب الطبيعي يتسبب في إثارة الغبار وتطاير شظايا بأحجام مختلفة. كان اعلاتي مشهورا بلحيته الطويلة والكثيفة… ؛ خاطب اعلاتي رفيقه الشيخ : “هاذو الع… مارگ فيهم إوسخو لحيتي، أَتِّفْ !…”، فسمع أحد المقاومين هذا الصوت الأخير، فرد ممازحا :”تِيتْ، يا العتروس !” ؛ عبارات لهجية متداولة إلى يومنا هذا، في بعض الأوساط الشعبية في الحوض الشرقي.
وتؤكد هذه الكلمات القليلة إيمان المقاومين بقضيتهم وقدرتهم يومها على التجاوز السريع للصدمات وعمق الصداقة والتضامن في ما بينهم، رغم المخاطر الكبيرة المحدقة بهم ورغم اختلال التوازن الصارخ، خاصة في ما يتعلق بنوعية السلاح وكميته.
كشف الشيخ -الذي كان يميز أصوات أسلحة رفاقه- أنه قلق عندما توقفت طلقات سلاح زوين، شقيقه. وعندما التقى به سالما، خاطبه : ” قلقت عندما توقفت عن إطلاق النار…”. فأجابه شقيقه : “لقد غفوت لا إراديا !…”
بحلول الليل، توقف مقاتلو المقاومة عن الرد، مناورة ؛ فقررت القوة الاستعمارية -التي اعتقدت أن جل مقاتلي المقاومة لقوا حتفهم وأن الذخيرة نفدت لدى الناجين-، الانتشار حول “ظايت زوروقو” منعا لهؤلاء الناجين من التزود بالماء.
وتحت جنح الليل، قرر الشيخ شن عملية “جريئة” أخرى ضد القوة الاستعمارية ؛ كللت هذه العملية بالنجاح، حيث تمت تصفية عدة عناصر استعمارية، واستولت مقاومة “الكديه” على أسلحة وذخائر حديثة أخرى…
شرارة “الفرفارات”
زار المرحوم الشيخ ولد عبدوكه المرحوم أحمد سالم ولد ابشيري في مضربه ب-“فرع الكتان”، وهو آنذاك شيخ محظرة، وبحضور ثقات آخرين قص عليهم :
“لم أرفع السلاح مباشرة في وجه النصارى ومعاونيهم، بل دفعني إلى ذلك السلوكُ الظالم والمتكرر لأحد معاونيهم اسمه “أحم لل…” ؛ لقد اعتاد هذا الحرسي (الگمياوي) أن يصادر أي سلعة أو دابة راقت له، بغض النظر عن مالكها الشرعي ؛ فكان يطلق، في كل مرة، حكمه الجائر : “ذيك صارت اعل ملك “أحم لل…” ! “.
لقد زارني، أكثر من مرة، هاتف في النوم وطلب مني تخليص المسلمين من الطاغية “أحم لل…”. ومرة وأنا في نواحي “الفرفارات”، كنت شاهدا على تسلط هذا الشخص، فقد صادر بحضوري ناقة بقعاء (زرگه) جميلة ليتامى ضعاف، فقررت عندها تلبية نداء الهاتف واغتيال “أحم لل…”. نسقت العملية مع شخص واحد أثق فيه تماما. كان “أحم لل…” يحمل سلاحا حديثا، وكان رفقة زميلين له. ترصدناهم بعض الوقت قبل أن نجهز عليهم وهم يتناولون الطعام، فسقط “أحم لل…” وأحد رفاقه عند اللحظة، وفر الثالث تاركا سلاحه. حاولت مطاردته، لكنه اختفى بسرعة في اتجاه “السن”… ولاشك أنه هو من أخبر النصارى بالواقعة.
لقد شكلت هذه البندقيات الحديثة الثلاثة أهم سلاح لدينا في البداية ؛ وهكذا بدأ الكر والفر بيننا وبين النصارى وأعوانهم…”.
استحقاق المرأة في دعم “الكديه”
عندما نستمع بإنصات إلى المرويات الشفهية عن “الكديه” في الحوض الشرقي، نستخلص أنه، وعلى الرغم من أن المرأة لم تشارك مباشرة في العمليات الحربية إلا أن هذه العمليات ربما ما حصلت أصلا أو ما نجحت كما نجحت، لولا الدعم اللوجستي والمعنوي الذي قدمته النساء للمقاومة.
كانت ربات الأسر في بعض الأوساط تحرصن على دبغ جلود الجديان والأرشاء والخرفان وتهيئتها قربا فردية للماء والسمون (ادهن، لودك،ازهم) ومحفظات للحوم المجففة (تيشطار الوحش والبل) ودقيق الحبوب (شونت بشكل خاص) والتوابل (اشروط)، وفي حالات نادرة، للحليب المجفف (الگارص) ودقيق الشعير المحمص (بلقمان).
لقد وصلت تضحية بعض النسوة، حسب المرويات الشفهية، إلى حرمان أطفالهن من بعض السلع وتخصيصها للمقاومة.
فلو لا هذا المستوى الاستثنائي من الدعم والتضامن، لما استطاع المقاومون المكوث أياما متتالية في بيئة الجبال الطاردة (الكديه)، في اكتفاء ذاتي، للتخطيط لعملياتهم وتنفيذها والاحتماء ضد ردات فعل عدوهم، ولما ألهموا تسمية الحصن المنيع : “الكديه”.
في المجال الغنائي والأدبي، برعت نساء المقاومة في اختراع أغاني جديدة دعما لمعنويات المقاومين وردا على الدعاية المضادة، من أشهرها : “لولان الشيخ، امبانه جات…” التي نالت من أبيات الشعر اللهجي (الگيفان) ما لم تحصده أغنية -راجت في المنطقة- تستجدي “أمة الهادي” “ألا تنام” وأن تبحث بشكل حثيث عن “Delanoé” الذي ضل طريقه (دلنو قادي) أو أمسك به رجال “الكديه”…
ولعل أجمل قصة تروي دور المرأة في “الكديه” هي التي سطرتها سيدة من تجمع “أولاد مُحمِّدْ” في “كوش” ؛ لقد زارها يوما الشيخ ولد عبدوكه “المشظوفي” وبحوزته قربة صغيرة (تيگط) وطلب منها ماء لرفاقه، وبعد أن تعرفت عليه، بدأت تحسن وفادته وتعبئ قربته ماء. في هذه الأثناء، دخلت المضرب قوة استعمارية تبحث عن الشيخ ورفاقه، فأسقطت السيدة خيمتها أرضا، حماية للشيخ، وأخذت سكينا وأحدثت بالخيمة شقا متعمدا، ثم أخذت أداة خياطة (مخيط وكبه) وجلست بكل هدوء وشرعت في إصلاح الشق الذي تسببت فيه للتو !
مرت عناصر القوة رفقة “مرشدهم المحلي”، فلم يثر مشهد السيدة المشغولة بصيانة خيمتها انتباههم. وفور مغادرتهم الحي، انسحب الشيخ تجاه الجبال المجاورة.
ارتاب مرشد الفرقة “المحلي” لاحقا من مشهد السيدة التي تخيط خيمتها في وقت (شدة الحر) غير مألوف لعملية الصيانة، فطلب من قائد القوة الاستعمارية العودة لتفتيش هذه الخيمة بالذات. دون جدوى…
وتكتسي هذه القصة النادرة سمكا دلاليا خاصا، عندما يتم وضعها في السياق التاريخي الخاص بالمنطقة.
قافلة الشقاق
في منطقة الحوض الشرقي الحبيسة، واجه التوغل الاستعماري مبكرا مشكلة شائكة تتمثل في تأمين قوافل الإمداد من الجنوب (مالي الحالية).
لقد أدرك مقاتلو “الكديه” بقيادة الشيخ ولد عبدوكه، عند الوهلة الأولى، الأهمية العملياتية القصوى لمهاجمة القوافل التي تسيرها الإدارة الاستعمارية الجديدة مباشرة أو عبر وسطاء لها ؛ فبالإضافة إلى إرباك هذه الإدارة وشلها، سعى مقاتلو المقاومة، من خلال السيطرة على قوافل التموين تلك، إلى الحصول على الأسلحة الحديثة التي كانوا في أمس الحاجة إليها ، بالنظر إلى القوة الهائلة لنيران عدوهم.
اكتشف “اكبير المهابه ولد ألمين ولد حمادي” قافلة “مشبوهة” كانت تتعرج، كثعبان طويل وبطيء، في منطقة “اظهر”، فاتصل بالشيخ ولد عبدوكه واقترح عليه مهاجمة القافلة المذكورة للاستحواذ على أسلحة المشرفين عليها وبقية متاعها. قبل الشيخ المقترح، واعتمادا على معرفة جيدة بتضاريس المنطقة، باغتت مجموعة بقيادته القافلة وهي تجتاز ممرا رمليا حرجا. في البداية، كانت المعركة صعبة بالنسبة للمهاجمين، لكنها، في آخر المطاف، تحولت لصالحهم. فخلال القتال بالأيدي بين الطرفين، واجه الشيخ ولد عبدوكه “عملاقا” جند خصيصا لتأمين القافلة. لم يجد الأخير صعوبة في الإمساك بالشيخ ولد عبدوكه ورفعه عاليا، ثم هم برطمه بعنف أرضا، طبقا لحركة حرفية قاتلة للمصارعة التقليدية (الدز) ؛ لاحظ “اكبير المهابه” الحركة، فوجه سلاحه صوب “العملاق”، فخاطبه الشيخ : “اكبير المهابه، لا تكتلني، الراجل ميت !…” ؛ لقد استعمل الشيخ سلاحا أبيض، فطعن الرجل في البطن، وكان متأكدا من أن سقوطه مسألة وقت قصير…
سمع بعض المشرفين على القافلة، والذين فروا لاحقا، الاسم الذي خاطب به الشيخ رفيقه ؛ وفور وصولهم إلى وجهاتهم، أخبروها بما حدث وب-“اكبير المهابه” كأحد المهاجمين.
شاعت تفاصيل الهجوم بسرعة في منطقة “اظهر”، وفور سماعه هذه التفاصيل، أمر إزيدنا بيه ولد سيداتي -الذي كان موجودا في “أرگي”- بإحضار “اكبير المهابه”، ثم رحله مباشرة إلى منطقة “كوش” البعيدة نسبيا، حماية له من الثأر.
وما هي إلا أيام قليلة، حتى وصلت “صربه” من ذوي إحدى الضحايا وأصرت على أن يتم إحضار “اكبير المهابه” وإعدامه في الملأ. إنقاذا لروح “اكبير المهابه”، نفى إزيدنا بيه بشدة معرفته بشخص يحمل هذا الاسم، واقترح، في المقابل، على “اصربه” البحث سوية عن المنفذ الحقيقي للعملية. لم تقتنع “الصربه” بالرد، وكادت الأمور تتطور إلى شقاق أهلي ؛ عندها اقترح شيخ مسن من محيط إزيدنا بيه إهداء جمل من إبل “اظهر” لكل فرد من “الصربه”، فتم تنفيذ المقترح كحل بين الطرفين وهدأت الأمور.
الجميل في هذه المروية الشفهية، أن زعيم “الكديه”، الشبخ ولد عبدوكه، الذي شكل الهجوم على القافلة، إحدى عملياته الأولى ضد التواجد الاستعماري في المنطقة، لم يتم تداول اسمه في إطار ملابسات هذا الهجوم ؛ ولعل كثيرين لا يعرفون، حتى الساعة، أنه من تزعمه ونفذه…
من الجدير بالذكر أن “اكبير المهابه” عاش عمرا مديدا، دون أن يتعرض لأذى، بين ذويه في “كوش” و”باقنه”…
النهاية
بمناسبة ذكرى عيد بلادنا الوطني، حاولت تسليط ضوء على مقاومة “الكديه”، من خلال المرويات الشفهية المحلية حصريا. آثرت عدم التطرق إلى الجدل الفقهي الذي رافق “الكديه”. لدي طبعا بعض الكتب والوثائق عن هذه المقاومة، لكن تكرار ما ورد فيها قد لا يكون ذا فائدة بالنظر إلى معرفته من لدن المهتمين وإلى ضموره “الروائي”…
بالإمكان تأليف كتاب من الحجم الكبير حول هذه المرويات. لقد تطرقت إلى بعض المعارك التي خاضها رجال “الكديه” ضد المستعمر، دون أخرى ؛ فاقتصرت، اعتبارا لعامل الوقت، على الوقائع التي لا يزال الناس يروون كلمات أبطالها “المباشرة”. ومن المعارك التي لم يتطرق إليها : تيگيگل، كوصه، انيايه، ولاته، اجريف، ابرازخ، ريني، الدخله، إلخ. بالمناسبة، تجمع المصادر المكتوبة على تسمية هذه المعركة الأخيرة بمعركة “ابرازح” ؛ فلعل الترجمة من المصادر الفرنسية، أضاعت “نقطة” جغرافية بالكامل !
حاولت كذلك أن تكون العينة “ممثلة” لما حدث على الأرض من مواجهات : معارك انتصرت فيها المقاومة بشكل قطعي (زوروقو، الشلخه…)، معارك لم تخسر فيها المقاومة (الخويبه)، ومعارك هزمت فيها المقاومة -مع الأسف- بشكل مؤكد (گاسي لكلال). لم أورد تواريخ المعارك، لأن هذه المرويات لا تتحدث عنها ولأن جلها موجود في المراجع المكتوبة ذات الصلة.
حاولت بيان قدرة رجال “الكديه” على التكيف مع واقع طارئ ومعقد للغاية، عبر الاستيعاب السريع لإكراهات المواجهة مجتمعة : الحصول على السلاح من العدو، عرقلة حركة قوافله، تخريب وسائل اتصالاته “السلكية”، العناية بالبعد الدعائي تأمينا للدعم الشعبي.
حاولت إبراز دور المرأة الذي غالبا ما تختزله المراجع المكتوبة عن “الكديه”، رغم حضوره الواضح في المرويات الشفهية.
لقد حرصت على أن أكون وفيا، قدر المستطاع، لهذه المرويات، بشكل يتعذر فيه على من يعرفها بشكل جيد أن يقول إنني زدت أو نقصت ما هو متداول ؛ اطلعت على كل التعليقات التي تفضل بها القراء مشكورين ولم أعثر، من ضمنهم، على من يشكك، بشكل جدي، في مطابقة المروية والنص المخصص لها، علما بأنني أعرف أن من بين المعلقين من له إحاطة ممتازة بالموضوع.
المعذرة في عدم الرد على الأسئلة التي لا توجد لها إجابات واضحة من منظور المرويات الشفهية…
من البديهي أن المرويات الشفهية عن “الكديه” أو عن أي موضوع آخر، لا يمكن اعتبارها “عين الحقيقة” ؛ في المقابل، يمكن اعتبارها رافدا مهما من الروافد المشكلة لهذه الحقيقة.
لدي قناعة راسخة بأن الموروث الشفهي عن “الكديه” يشكل منجما معرفيا، قابلا للتعدين المجدي في أكثر من منحى : السبر الإناسي، الحفر التاريخي، التغطية الروائية، الإضاءة السنمائية و”المسرحة” الناجحة…
حبذا لو تفضل أشخاص آخرون بالكتابة عن “الكديه”، من زاوية المرويات الشفهية ؛ فتقاطع كتابات من هذا النوع، سيشكل، بدون شك، عصارة فكرية وثقافية ثمينة.
كل ما كتبته عن “الكديه” بالعربية، حررته كذلك بالفرنسية.
شكرا جزيلا لكل من اهتم بهذا الجهد المتواضع، وعيدا سعيدا !