المنتدى الموريتاني لحفظ ذاكرة المقاومة

مشروع حفظ وتخليد ذاكرة المقاومة

تشكل ذاكرة المقاومة جزءا حيويا من الهوية الثقافية لكل شعب، وهي تعني كل ما يتعلق بمقاومة ذلك الشعب للمعتدي الأجنبي الذي يسعى إلى احتلال أرضه واستعباده...

الأخبارالكتب والدراسات

حول الذاكرة الوطنية والتاريخ الموريتاني بقلم : سيد محمد ولد عبد الوهاب ، باحث في مجال التراث الوطني

 

تأملات حول الذاكرة الموريتانية

بقلم :  سيد محمد ولد عبد الوهاب ، الباحث في مجال التراث الوطني

قد يتفق الكثيرون علي أهمية تشكل ذاكرة وطنية جامعة لأهم التجارب التي مرت بها الدولة الموريتانية منذ نشأتها مع الاحتفاظ بما يفيد من تراث الأسلاف وتراكمات الماضي، تأمينًا للحاضر من كوابيس الذاكرات الجزئية وذرائع الانتقاء السلبي، الذي يقود هذه الأيام لدعوات التجزئة أو الانفصال أو الذوبان في كيانات أخري.

كما أن ظهور الكثير من النزاعات العرقية والدينية في العديد من مناطق العالم يبين خطر تفعيل ذخيرة التاريخ من طرف فئات تسعي لإعادة صياغته من منظور ماضوي تجزيئي أو ديني متطرف أو ذرائعي يبرر مختلف التوجهات الكارثية.

أما غياب أو تغييب الذاكرة، تجاهلًا أو إهمالًا عمدًا أو عن غير قصد، فقد يعرض الكيانات السياسية لأعراض مرض الزهايمر أو داء باركنسون كما يحدث للأشخاص، إذا ما أخذنا بجزء من نظرية موريس هابلفاكس للمقاربة بين ذاكرة الأفراد والذاكرة الجماعية.

فقد شهدت أوروبا صراعات فكرية بين الذاكرات بعد الحروب العالمية وݰكلت في عدة دول افريقية لجان لدراسة الذاكرة بعد رحيل المستعمر كما أنشأت هيئات خاصة بالموضوع كالسكرتارية الوطنية للذاكرة في الجزائر و “اليوم الوطني للذاكرة”.

واقتباسا من نظرية مؤسس علم الاجتماع، عبد الرحمن ابن خلدون، عن الدولة من الشباب إلى الشيخوخة، فإن حفاظ الشعوب على ذاكرتها والتعامل معها بعقلانية يعدان ضرورة لتقوية جذورها الراسخة في الزمن وقيمها الملهمة أمام نوائب الأيام وخطر العصبيات التقليدية.

ونستشهد بمقولته “إن العمران البدوي أصل للعمران الحضري” لواقعنا رغم دور العامل الخارجي الحاسم في توجه التاريخ المحلي.

فالمجال العمومي يبقي مفتوحًا لطغيان ذاكرات شفهية أو مستوردة أو انهزامية يغلب عليها الطابع السلبي (النهب والغبن والإحباط والعبثية وأشكال اليأس) في الخطابات السائدة في غياب نظرية وطنية واضحة المعالم.

كما أن اضطراب المواقف السياسية ينم عن اشكال من البحث عن الذات وتقليص الأمل حول المطالبة بنسبة من “الغنيمة” بمفهوم د. الجابري في أديم الترحال المدني.

ويبقي واردًا في إطار تراكم التجارب الاعتراف لكل نظام حكم البلاد بمساهمته في البناء ودوره في التخريب بدل نظرية البدء من لا شيء السائدة بعد كل إنقلاب، كنوع من إعادة الذاكرة إلى الصفر لعدم تفعيل وظيفتها سابقًا.

إن دعوات إعادة كتابة التاريخ الوطني ونشر مجموعة مذكرات “شاهدة على العصر” (مذكرات رؤساء سابقين، إداريين ورجال أعمال واكبوا ميلاد الجمهورية الأولي) وإطلاق أسماء ذات بعد تاريخي علي بعض شوارع العاصمة إضافة إلا زيادة الوعي بأهمية التخليد (بطولات المقاومة، ذكري تأسيس بعض الهيئات …) تنم عن اهتمام الأجيال الشابة بمعرفة ماضيها القريب و البعيد.

ان اختفاء شخصيات وطنية واكبت مراحل مهمة من تأسيس الدولة وشهدت على أحداث مفصلية (مثل أحمد باب ولد أحمد مسكه، مصطفي ولد بدر الدين، عائشة كان، محمد يحظيه ولد بريد الليل وغيرهم رحمهم الله) يثير اشكال ما احتفظوا به معهم من أسرار لم يبوحوا بها قد تساهم في إضاءة جوانب من تشكل الواقع الحالي.

كما أن بث بعض البرامج الوثائقية حول انشاء العاصمة نواكشوط وسلسلة المقابلات الهامة مع من واكبوا التأسيس (كالصفحة الأخيرة ل د. الشيخ سيد عبد الله) و “حكاية مكان” و “شاهد علي العصر” ساهم في نشر اهتمام الرأي العام بفهم تسلسل الأحداث الوطنية وتفاصيلها.

إن إثارة شذرات من الماضي في برامج “كنوز”، “زمن الفتوة”، ” أعلام”، “عيل لكباح” مشاهير” إضافة إلي نشر كتب عن تاريخ الإمارات و المدن القديمة و الشخصيات الشهيرة غذت ذلك الاهتمام إضافة الي دور هيئات كالمتحف الوطني و معارض الغرفة الموريتانية للتجارة و الصناعة حول تاريخ العملات و المنتوجات المحلية، أمور ساهمت كلها في زيادة الوعي بتسجيل الأحداث و البيانات.

فتطور فضاء التواصل الحديث والتداول المرئي والمسموع لمنتجات الثقافة التقليدية وقصص القدماء كونت مجتمعة حافزًا للتفاعل مع ذلك التراث الرافض للاختفاء يتعدي مرحلة الحنين.

ومما هو بديهي أن الدولة الموريتانية المعاصرة تشكلت على أنقاض وبقايا إمبراطوريات وممالك وإمارات ومشيخات جمعت شعوبا شتي وانصهرت في بوتقتها ذاكرات جماعية لقبائل واثنيات ومجموعات حضرية (مدن القوافل، أودية المناطق الجبلية، قري الضفة مثلا) وأنماط حياة (زراعية، بدوية، صيدية صحراوية أو ساحلية) قادها المطاف للواقع المركزي الجديد حاملة ما تبقي من انساق عاطفية وفكرية لم تندثر مع تلاشي الإطار التقليدي ونمط الحياة الضارب في القدم.

رصيد يستحق الاعتبار الموضوعي ومنهج الأخذ والرد والأرشفة ولا تزال أشلاء ذلك الماضي وأصداء أساطيره تراود وجدان الكثيرين بألوان شتي رغم سماكة النسيان وتعدد الثقوب والحلقات المفقودة هنا وهناك، مشكلة نوعًا من “اللاوعي الجماعي” حسب عبارة عالم الاجتماع كارل يونج.

من هذا المنطلق تنبثق اشكالية التراث (الإيجابي والسلبي والمخضرم…) وتثمين المشتركات وفك الألغام الماضوية وتوسيع دائرة الوعي بالثوابت الجامعة قبل تأسيس الدولة الوطنية التي “ابتلعت” كل تلك المكونات مثل كائن “التنين” (Léviathan) ذو الرؤوس المتعددة عند توماس هوبز ونسجت خيوط أسطورتها الخاصة.

كما أن حجم انمحاء واندثار الأشياء في محيط الصحراء ولد ظاهرة الزهد في الحفاظ على قيمة الموروث طالما المصير الحتمي هو الفناء أمام عاتيات الزمن: “الرحالة ماه اعمار…..” و “الدنيا طبيعتها النفشان “.

مخزون من الحكمة والتأمل خلده الأدباء وواكبه على المستوي الشعبي فائض من التنازل عن قيمة الرمزيات والاكتفاء باجترار النكبات والآلام وكوارث الانسان المحاصر في بيئته.

و تبقي إشكالية تقويم الماضي-الحاضر و فهم تسلسل احداث الحاضر-المستقبلي في خضم “تسارع وتيرة التاريخ” زمن العولمة بتعبير دانيال هاليفي في صميم الاهتمام بوجود بذور جامعة لشتات سبق نشأة الدولة مع ضرورة فك طلاسم الغموض و التناقض بينه مع “العقد الاجتماعي” (Le Contrat Social) الجديد بعبارة جان جاك روسو مطروحة للعقل الموريتاني المعاصر إضافة لصدء شروخ شكلت سراديب نازفة مازلنا نصطلي ببقايا آثارها : ايام حروب الماضي ، مخلفات العبودية، حرب الصحراء، مأساة أحداث 1989, كوابيس الانقلابات و كوارث الجفاف و الفقر و نقص مقومات البنية التحتية .

تشكل فترة الاستعمار وما واكبها من مقاومة بطولية ومداهمة “عقلانية” إحدى المراحل المفصلية في الوعي الوطني وتشكله التدريجي لمختلف دول المنطقة. كما أنها تحمل ايضا أنساقا من اختلاف الرأي داخل النخبة والشعب في طريقة التعامل مع المحتل لا يزال توفيق تناقضها مطروحًا بعد رحيله.

وتأتي مرحلة الاستقلال حاملة بصمات جيل “التأسيس” وتناقضات رواده (سيد المختار انداي ، المختار ولد داداه، حرمة ولد ببانه …رحمهم الله) مع الاختلالات المتعلقة بوصاية المستعمر و تحديات إنشاء دولة فوق الرمال و بين أطماع القريب و البعيد.

وثمة عوامل عدة تضافرت في اتجاه دفن الذاكرة أو تلاشيها مثل ضياع الآثار، زحف الرمال والأسمنت المسلح، الهجرة الجماعية إلي عاصمة حديثة النشأة مع الخوف لدي القادة الجدد من إيقاظ احقاد الماضي والزهد المفرط في الرمزيات و الانهماك في معركة البناء و عقلية المجتمع الاستهلاكي الدائر حول اللحظة و الملموس …اضافة لصعوبة ترتيب الأحداث الوطنية المتضاربة و وصاية الإطارات التقليدية (القبيلة، الجهة، الفئة، الأسرة أحيانًا) علي قضايا ذات بعد وطني مما يجعل “تأميمها ” واردا.

ومن الأعباء المنفرة أحيانًا في إشكالية الماضي إثارة المظالم التاريخية (العبودية، التراتبية، التبعية…) وتصدعات الكيان الوطني التي سببتها أحداث أليمة وتراكمات تستحق التحليل لأخذ العبر منها وضمد الجراح في إطار مصالحة مع الذات بدل إحالتها المستمرة لمجال المحظور والمسكوت عنه والمعقد الخوض فيه والمشحون عاطفيًا.

من هنا يتأتى منطق الاعتراف بالمظالم التاريخية أو الظرفية وإنصاف من اكتووا بجحيمها وكذلك العرفان بتضحيات الأجيال السابقة قديما وحديثًا في دورها الداعم للمشتركات وقيمة موروثها المعنوي والعلمي والبطولي والإنتاجي والفني والأدبي والمعماري ولامادي…

ولنا أن نتساءل عن المعالم والدلائل والثوابت والجسور والإشارات في فضاء سبق رسم حدود الدولة وتفصيل خريطة عاصمتها.

إن حجم التناقضات وعمق ثقوب الذاكرة النظرية يستدعي مجهودا أبستمولوجيا (معرفيا) متعدد التخصصات من مجموعات باحثين يشخصون هذا التراكم الهائل من الأحداث لترتيبه بشكل يعطيه معني مبسط ومركز مثل اختزال بطاقة التعريف الرقمية للعديد من المعلومات الشخصية و القرص الإلكترونية لآلاف المعطيات المرتبة في نوافذه.

في هذا الإطار قد يبدو واردا إثارة إشكالية الأحداث المفصلية والرموز التاريخية التي تشكل مرجعية لتشكيل ذاكرة جماعية تحمل هموم الشعب وتطلع الأمة الموريتانية لتجسيد نوع من وحدة المعني للمصير المشترك، رغم تنوع الخلفيات، والذي يحمل بصمات الكثيرين رغم فائض التعتيم والضياع والإهمال لكنوزه.

كما أن سحب السياج النفسي (الأسري والمحلي) المحيط بالكثير من الشخصيات التي ساهمت في تشكل الماضي والحاضر قد يساهم في إعطاءها البعد الوطني المستحق.

وهنا يتأتى تأصيل الذاكرة وبناء صرحها الحامل لروافد ضاربة في الزمن، جسورًا شاركت في تشييدها أنامل وأفئدة غابت ولم تختفي وبقيت بعد أن نسينا كل شيء.

وسعيا لإنصاف المؤسسين ومن سبقوهم يتنزل التفكير فيما يمكن أن نسميه الأنماط الموريتانية التي ساهمت في تشكل هوية وطنيه متعددة الأعراق والثقافات..

التاريخ الوطني الموريتاني
بقلم : سيد محمد ولد عبد الوهاب

باحث في مجال التاريخ الوطني
مقيم في الولايات المتحدة

في سلسلة المقالات الصادرة تحت العنوان “منتجو التاريخ الموريتاني” و التي تم نشرها علي الموقعين الموريتانين “آدرار إينفو” و”إكريدم”، الناطقين باللغة الفرنسية، تقدم المؤلفة ماريئلا فيلازانت سرفلو (من مركز جاك برك بالرباط)، حصيلة ذات إسهامات مختلفة “لتاريخ شامل” مستقبلي لموريتانيا، يستنطق الإمكانيات الدلالية و الابستمولوجية لـ”تاريخ وطني” يربط ألفيات الماضي للتراب الموريتاني الحالي بحدث و مشروع الدولة الأمة المستقلة منذ 1960.

 

وتظهر جدارة هذه السلسلة، من بين أمور أخري، أنها أثارت السؤال الجوهري لأهمية تاريخ وطني يتوسط مجموعة من التواريخ المحلية و الجهوية و القبلية و العرقية و الأحادية التي تغطي فضاء اجتماعيا وتاريخيا (اترارزه، الألماميات، اتحاد إدوعيش…) والدينية (اعتناق الإسلام، تبني المذهب المالكي، الزوايا التيجانية والقادرية والفضيلية…) والمكانية (كومبي صالح، شنقيط، ولاته، كهيدي، تشيت…) والزمانية (ملحمة المرابطين، حرب شرببه، ظهور الإمارات البيظانية، الفترة الاستعمارية، الاستقلال، حرب الصحراء، الأنظمة العسكرية، الفترة الديمقراطية)…

واحتراما للبعد النقدي الذي اتخذه الكاتب اتجاه العمل الذي يهيمن عليه علم التاريخ (الإسلامي أو الاستعماري) ومقاربة سجلات (المختار ولد حامدون وموسوعة حياة موريتانيا) والتشكيلات الأنسابية والحدود الجغرافية (تاريخ تيشيت أو ولاته…) أو النظرة الاجتماعية (عبد الودود ولد الشيخ، بيير بونت، يتساءل حديثنا عن إمكانية اتجاه أو خيط رئيسي لمصير هذه الأمة ذات المكونات المتشعبة.

 

فالعرض المبعثر لهذا الأرشيف، بغض النظر عن تفاصيله و الظروف الزمنية التي وقع فيها، يستدعي جملة من الملاحظات.

ما الذي ينبغي لنا أن نستخلصه من أنقاض تلك الإمارات المفقودة، من إمارات اختفت و إمبراطوريات تفجرت وطبول خفتت و مشايخ انهارت حتى أصبحت مجرد عشائر أسرية و مملكات صارت عواصمها ملاذا للرياح والتأمل…؟

بإعلانها السيادة على فضاء التراب الوطني، ألا تقوم الدولة بفرض ملكية “شرعية” لذاكرة كل الكيانات التي سبقتها ؟

ألا يوجد في التراث المادي المتمثل في حدث الاستقلال، تراث تاريخي، تجب مطالبته وترقيته في وجه المطالبات الخارجية والشرعيات المحلية؟

 

ألا يمثل بناء تاريخ وطني إجابة لحاجة أساسية للتعريف بالذات، للحق الشرعي في ذاكرة وطنية، لاحترام التراث المتراكم وللشعور بالإنصاف اتجاه المؤسسين، كرموز للماضي، ما قبل الاستعمار و كأبطال للمقاومة وكصناع للاستقلال؟

 

إننا نحس – من وقت لآخر– وكذلك في المناسبات الوطنية الهامة وخلال التظاهرات المخلدة للتراث الثقافي (مهرجان موسيقى الرحل، مهرجان الثقافة السونينكية والبولارية…) وفي لحظات التعبئة للشأن الوطني، بالحاجة إلي هذا الترسيخ التاريخي.

إن حديثنا عن الشأن الوطني، يضعنا في صميم الميدان الفكري للخطاب و التمثيل. ولا بد هنا، من الفصل بين ما يتعلق بتأسيس الدولة والدفاع عنها واستمرارها ووحدتها وأصالتها.

وتمثل في هذا المضمار، فصول مقاومة الاحتلال الأجنبي ونيل الاستقلال قيمة رمزية حاسمة، يشكل تاريخ الأنظمة السياسية، المدنية والعسكرية وحرب الصحراء، حلقات تقربنا من الحاضر.

إن غياب دولة مركزية في السابق، على الحيز الترابي الذي أطلق عليه إكزافيي كبولاني اسم “موريتانيا الغربية” سنة 1889، غير قادر على جهل تكتل تلك الكيانات المنهارة الضاربة في القدم (إمبراطورية غانا ، المرابطون، التكرور، مملكة بني غنية ، البافور…)، والإرهاصات العسيرة لدول محدودة (ممالك الوالو، كاجور، سينسالوم، جولوف والإمارات البيظانية…) والمشاريع الاتحادية و المتشابكة في جميع الاتجاهات بين الرحل و شبه الرحل و الحضر في الواحات أوفي منطقة النهر

هل ساهمت كل من ظاهرة التجارة العابرة للصحراء العريقة (سباخ كدية اجل بتيرس حتى أطراف انياكارا) ومرحلة المرافئ التجارية (أركين، وادان، بودور) والسيطرة الاستعمارية وعقليتها اليعقوبية في ترسيخ الحقيقة السياسية الجديدة؟

وفي هذا السياق، يبدو جليا أن كل فئة من المكونات الثقافية للفضاء الموريتاني، (البيظان، البولار، الولوف، والسوننكي…) قد تجاوزت بكثير الحدود الجغرافية للأرجوحة الاستعمارية صوب الدول المجاورة (مالي، الصحراء الغربية، المغرب، السنغال… وأبعد من ذلك) ورغم ذلك لم تستطع كل منها، أن تشكل، حسب العارفين للتاريخ، وحدة سياسية أو مشروع دولة قومية محصورة في طابعها العرقي.

 

إن تواجد هذه الكيانات الاجتماعية تعدي حدود التراب الموريتاني، كما تم تجاوز خصوصيات هذه المجموعات من قبل مشروع الدولة متعددة الأعراق، الذي بدت عاصمته، في نشأتها بين الكثبان الرملية والمحيط، كوحش يبتلع كل ما سبقه.

فتخلت المدن القديمة- شيئا فشيئا – عن ماضيها لصالح جيل من المدن الجديدة، تم بنائها من نقطة الصفر:انواذيبو، ازويرات، بتلميت، كيفه، ألاك ….

إن تعريف ملامح تاريخ وطني، يعبر عن حقيقة جديدة على كل الأصعدة، يتطلب تحديد خط فاصل، يفرق بين ما هو وطني و ما سواه مما له صلة بسجلات موازية سابقة أو معادية لوجود الدولة.

 

وفضلا عن قراءة زمنية سياسية بحتة، فإنه من الواجب على هذا التاريخ أن يتضمن الاستكمالات الوطنية في مختلف الميادين (الفنون، الثقافة، الهندسة المعمارية…) وكذا معاناة الشعب طيلة فترة “السيبة” وعصور العبودية والهيمنة تحت “الركاب والمحراث والكتاب”، عنوان كتاب المؤلف دي شاسي.

 

فلن يكون باستطاعتنا التعبير عن مدى أهمية المادة التاريخية المجمعة، في ظروف غالبا ما يكون تجميعها صعبا للغاية، لهؤلاء المثقفون والعلماء و المشايخ الدينية ورواد الاستعمار والاستكشافيون والمغامرون والباحثون المعاصرون وهواة التاريخ أو المولعون به، الذين أنقذوا من النسيان – هنا وهناك – حلقات هامة و أحداث تأسيسية وتواريخ لا يمكن تجنبها وأسماء وأماكن ستظل و إلى الأبد، سبيل أمة ذات المنابع المتعددة و التراث الثقافي المتشعب.

 

فالعامل الصحراوي للتحلل أو الدفن المطلقين، سيبقي رغم ذلك، ضاربا في القدم.

إن نظرية و توجه هذه الإسهامات تتعلقان بالمؤلفين أنفسهم وبالظروف المحيطة بإنتاجهم المتعدد: شهادات شخصية، حكايات سفرية، دفاعات قبلية، إنشاء شجرات أنسابية، معاهدات سياسية، تقارير عسكرية حول المعارك الصحراوية وحركات وحدات الجمالة …

 

إن جزئا كبيرا من هذه المكتوبات يتعلق بمرحلة ما قبل التاريخ الوطني؛ تلك الحقبة المعقدة، حيث كان الفاعلون يتصرفون انطلاقا من منطق آخر، في ظرف لم يكن إنشاء الدولة المستقبلية في الحسبان.

أما مرحلة المخاض، فإنها تضمنت فترات تأسيسية مثل المقاومة المناهضة للاستعمار، والدور الحاسم للمستعمر الفرنسي وظرفية استقلال المستعمرات الإفريقية، …

و مثلت جسامة و ضخامة ورشة إنشاء الدولة الوطنية، غداة ولادة “مدينة اللافتات” تحت الخيمة، تعبيرا لكل مخاطر النجاة (أطماع الجيران، هشاشة الهيئات والبني التحتية).

وإذا كانت الاهتمامات المتعلقة ببناء الدولة الموريتانية الفتية، منصبة طيلة عقودها الأولى صوب الحاضر، ضاربة عبر الحائط ماضي “مشحون بشياطين التفرقة و البلبلة”، فإن كلا من تقليد المحظور التاريخي ومعتقد فقد الذاكرة ومنهج الصحة البيضاء وثقافة الأفواه المكممة…ساهمت في نشر توجس شديد من التاريخ الراسخ في الذاكرة الجماعية اللاواعية، إضافة إلي الشعور بالذنب تجاه أية إثارة أو تجلي لكل ما له دلالة تاريخية.

وفي غياب تاريخ وطني، يوصف في ابعد الأحوال بالخطير والمجازف، كان اللجوء دائما بين راحة المعلمة التقليدية (تاريخ القبيلة، المجموعة،الأعراف،الولاية) والاستياء من ماضي محمل بكافة أشكال الظلم و الدفن البين و البسيط لما تقدم والتأرجح بين لحظات النشوة التاريخية، متبوعة بلبلة يصعب التخلص منها.

إن التاريخ المهمل، مثل الأرض، ينجب المخلوقات الأكثر غرابة ويوقظ الأشباح النائمة منذ ألف عام ويكشف عن كنوز لا تتغير بفعل العوامل… إن غياب السبل ووفرة الأماكن الخالية (المهجورة، المنسية) يجعل جرد الحصيلة أمرا مستعصيا.

 

فيجد هنالك ضعف الوازع الوطني قسطا كبيرا من أسباب ديمومته و التوجه إلي الخارج سببا لوجوده و الترحال العقلي و السياسي ميدانا للتجريب، كما يجد في نابضات الاستقالة الجماعية أرضا خصبة وزمنا يكفي لإذابة الوازع الوطني في ميدان متاهات الغموض أو النظام الكوني…

أمام عجزه أن يصبح وطنيا، يحس بانتمائه لبلد، يصبح الشخص دوليا، عالميا أو كونيا أو يتجه إلي الاستمتاع الأسهل الذي يلجأ إليه عندما يختار الاحتماء وراء قشرة جلده، ملاذ كل العواطف و الحقائق السطحية.

 

ولهذه الأسباب، لا يزال المسار التشخيصي كله والفرز والمعلمة والقولبة تحتاج إلي الاستكمال ولا يمكن ألا تكون نتيجة لعمل متعدد التخصصات، موضوعي وتوافقي.

 

فقيام وحدة الدراسات التاريخية و الاجتماعية و نشر التراث بجامعة نواكشوط بتنظيم ندوة تحت عنوان “موريتانيا من 1960 إلى يومنا هذا، المكاسب والآفاق” يعتبر إسهاما في الجهود المبذولة.

كما أن نشر مذكرات رؤساء وشخصيات عايشوا أحداثا بارزة، ربما يساعد في تسليط الضوء علي مختلف مناطق الضبابية لفائدة الأجيال القادمة.

ففي مقدمة وصيته السياسية، “موريتانيا على درب التحديات”، ذكر أب الاستقلال الوطني، الأستاذ المختار ولد داداه، رحمه الله، ثلاثة تحديات كبرى وهي على التوالي حسب الأولوية : الوجود، فالهوية ثم الديمقراطية أو التنمية.

وبما أن الوجود قد تجسد فعليا وأن الديمقراطية والتنمية قيد الإنجاز، فمازال النقاش حول مسألة الهوية يركن مكانه، بل إن مطالب المجموعات بدأت في التصاعد، بلجوئها إلي روايات ذاتية و انتقائية.

أن إعادة الاعتبار للتاريخ الوطني، ستساهم، و أملنا كبير، في بلورة رؤية أكثر تبصرا للمستقبل والي تثمين أكثر إنصافا للماضي.

سيدي محمد ولد عبد الوهاب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى