البطل المجاهد محمد محمود ولد سيد لكحل ولد أحجور ، بقلم الباحث : سيدى الطفيل أمّيحميدْ

مقال
بسم الله الرحمن الرحيم
محمد محمود ولد سيد لكحل ولد احجور
تخليد أبطال المقاومة واجب لإحياء الذاكرة الوطنية
بقلم : سيدى الطفيل أمّيحمَّيد
باحث في تاريخ المقاومة
يفرض تخليد ذكرى شهدائنا المقاومين ضد المستعمر نفسه اليوم لسببين:
أولا: في الوقت الذي نحتفل فيه كل عام بذكرى عيد الاستقلال الوطني ، وثانيا كون بلادنا تتعرض لتهديد الإرهاب والتطرف وجنودنا يسقطون في ميدان الشرف دفاعا عن كرامتنا وأمننا.
وفي هذا الظرف بالذات يجب علينا الالتفات إلى الوراء لنذكر أجيالنا الصاعدة بأمجاد أبطال مقاومتنا الوطنية الذين قدموا دماءهم الزكية دفاعا عن قيم وأخلاق مقدسة يجب المحافظة عليها وترسيخها وإلى الأبد.
إن هؤلاء الرجال هم من سطروا بدمائهم أجمل صفحات تاريخ هذه الأمة.
والتذكير بهؤلاء الأبطال أصبح أكثر إلحاحا في الوقت الذي يقلل فيه بعض النخبة من شأنهم أو يكاد ينكره، وهذا النكران والتجاهل يبدو جليا في انعدام ذكرهم في المراجع المدرسية، وللأسف الشديد لا توجد بحوث متخصصة في مجال مقاومة شعبنا البطولية للمستعمر بل ولا توجد معالم تخلدهم ولا شوارع تحمل أسماءهم وحتى لا مواقع في الانترنت تعرض لبطولاتهم ولا صفحات (فيس بوك) تشير إليهم، فضلا على أنه لا أفلام ولا قصصا ولا مقطوعات شعرية تخلدهم..
ولا شيء قل أو كثر يذكر في هذا المجال.
وهكذا تبدو المقاومة الشريفة للمستعمر كأنها موضوع محظور، معتم عليه أو خطير لا يجب البت فيه إطلاقا.
هل وصل الحد ببلد المليون شاعر إلى هذه الدرجة من انعدام الإلهام؟
هل فقد الذاكرة، أم أنه لم توجد مقاومة ولا أبطال أصلا؟
الأمر الذي أرفضه تماما.
وفي مساهمة متواضعة مني في هذا المجال، راجيا أن يبعث ذلك في نفوس مثقفينا روح البحث والاستطلاع في هذا الموضوع النبيل، ومن أجل إحياء ذاكرتنا الجمعية فإنني أذكر بواحد من أعظم هؤلاء الأبطال الذي ضحى بحياته لأسمى وأنبل القضايا ألا وهي الدفاع عن الوطن وحوزته الترابية.
إن هذا الرجل كان بسيطا ومتواضعا، ولم يكن لديه ملك ولا لقب يدافع عنه.
لم يتجاوز العشرين من عمره حين اجتاح المستعمر البلاد. ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف يوما عن مكافحة الغزاة إلى أن لفظ آخر أنفاسه.
وبعفوية انطلق مع فريق قليل من أقاربه يهاجم المستعمر من دون عدة أو سلاح. لم يكن يعتمد إلا على حسن النية الفطرية لدى البسطاء وقوة عقيدة المؤمنين الأوفياء ومستوى سام في اعتبار الواجب والشرف مع ثقة في النفس يختص بها الرجال الأحرار.
ونتيجة لهذه الاعتبارات كلها سرعان ما ازداد الرفاق المقاتلين معه وتيسرت الأسلحة والذخيرة وتكررت الانتصارات.
لقد كان في مقدمة أكبر المعارك المشهورة في مقاومتنا الوطنية وأخرى كثيرة مجهولة.
هكذا برز في “النيملان”[1] وانتزع بالقوة أول بندقية له ذات طلق سريع (الرباعية)، وكان شجاعا خلال حصار تجكجة[2] حيث قاد فريقا صغيرا واقتحم قلعة العدو ليخلف في صفوفه الذعر والخسائر (يوم آرزاك).
وكان وفيا حين غطى انسحاب زميله المشهور محمد المختار ولد الحامد[3] بعد إصابته بجروح في معركة الرشيد[4] حيث تسلل وراء خطوط العدو لتصفية الضابط الذي كان ينسفهم بالمدفع الثقيل (الرشاش)، ذاك المدفع الذي أسماه المقاومون حينها بـ:”القار ال تصب النار”. كما اشتهر من بين رفقائه في المينان[5]، يوم القضاء على جمالة تجكجة التي كانت تعتبر نخبة جيش المستعمر آنذاك، وعلى رأسها النقيب مانجيه المعروف “ببوضرس”.
وذاع صيته يوم لتفتار[6]، حيث كانت الغنيمة لذيذة (قافلة تموين ثكنة المجرية المتمثلة في مئات الثيران المحملة بالمواد الغذائية) ولكنها كانت مرة الطعم لبطلنا بسبب فقدانه لصديقه الحميم البطل محمد المختار ولد امْحَيْمَّدْ الملقب ولد يُمَّ. واعترض سبيل المستعمر في جميع أنحاء البلاد[7]، وكان يمتاز بالشجاعة والجرأة والعبقرية الخلاقة للانتصارات. تم ذلك في مواقع (سبخت تماكوط، والعين الخظرة، ولكليب لخظر) في آدرار[8]، و (تيشيت ـ وأم لعويتكات، وحاسي العركوب، والتيدومة) في تكانت[9]، وكذلك الحال مع الانتصار العظيم في (الجحافية، وقزيز) في لعصابة[10]، وسيعتـرض سبيلـه كذلك في “نير” بالحوض[11]، حيث يوجد قبر مرافقه سيدي ولد خرخش واستمر ذلك حتى أزواد حيث توفي هو نفسه بموت طبيعية راجعا منتصرا من غزوة ضد العدو.
وباعتراف العدو، فإن هذا الرجل وقومه، الذين كان يصفهم بالعصابات الناهبة، تسببوا له في أكبر الخسائر بعد موت كبلاني[12] (في المينان والجحافية بفقدان مجموع كتائب الجمالة بمن فيهم الضباط).
وبشهادة من عرفوه فقد كان هذا الرجل مثالا في الشجاعة والاستقامة والتواضع والعزيمة.
وبعد أن عجز المستعمر عن القضاء عليه بالقوة، ويعلم الله أنه لم يدخر أي جهد في هذا المجال، فقد اقترح عليه المستعمر، بواسطة أخيه الأكبر (الذي وافق على شكل خاص من التعامل مع المحتل)، صفقة يؤمره بموجها على أي منطقة يختارها مقابل خضوعه للاحتلال “المكاتبة”[13].
وكان رده على عرض المستعمر ما يلي: “إنهم هم الذين يتسابقون لكسب الأموال والألقاب في هذه الحياة الدنيا، أما أنا فأقسم بالله الذي لا إله إلا هو “مَانْكَاتِبْ مَا كَالِـتْهَا لِي رُبَاعِيْتِ هَذِ بلسان فصيح” هذا ما كان جوابه لأخيه الذي بذل كل جهد حتى أن وصل إليه في معقله المجهول (تاكجورت)[14] مصطحبا معه بالمناسبة ابنه الوحيد.
فبكى الجميع في صمت، وانسكبت دموع حارة مُسِحَتْ بسرعة وحياء، وتوادع الجميع.
وكان ذلك آخر لقاء بينهم.
هذا الرجل كان يدعى محمد محمود ولد سيد لكحل ولد احْجُور[15].
الرحمة والمجد والخلود للشهداء.
بقلم/ سيدي ولد أطفيل ouldtfeil@hotmail.com
[1] ـ دارت هذه المعركة في النيملان على بعد 35 كلم جنوب تجكجة في تكانت يوم 6 نوفمبر 1906، وتعتبر هذه المعركة من أضخم المعارك ضد الاجتياح الفرنسي للبلاد من حيث عدد المجاهدين المشاركين الذي وصل إلى أكثر من 500 مقاتل وتمت إبادة جل قوات العدو. وتضمنت خسائرهم (إثنين من الضباط وإثنين من ضباط الصف وستين من الرماة وثمانية من القوم وعدد من المناصرين).
انظر ديزيرى دي فيلمين G.D.Villemin “مساهمة في تاريخ موريتانيا من 1900 إلى 1934″، ص: 162.
انظر أيضا الرائد افرير جان Frerejean “مذكرات جوالة حرب في بلاد البيضان من 1902 إلى 1912” ص: 344.
انظر كذلك الرائد جيليه Gillier “التوغل في موريتانيا” 1926، ص: 140.
[2] ـ بعد انتصار النيملان قامت المقاومة بمحاصرة ثكنة تجكجة لمدة 24 يوما، انظر الطالب اخيار ولد الشيخ مامينه “الشيخ ماء العينين: علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي” ص: 261.
انظر أيضا الرائد جيليه Gillier، مرجع سبق ذكره، ص: 141.
[3] ـ مقاوم كبير من رئاسات قبيلة كنت بايع في البداية كبولاني وانتقل إلى المقاومة بعد موت هذا الأخير، ليلتحق بالشيخ ماء العينين ويتحالف مع أهل احجور متخذا من الرشيد قلعة لتنظيم المقاومة المحلية. وفي نهاية معركة النيملان هاجموا معا الفريق العائد من المعركة بقيادة الملازم افرانتسي Frantsu وأبادوهم. وقد جرح سنتين بعد ذلك في معركة الرشيد لكنه استطاع النجاة والالتحاق بالشيخ ماء العينين، انظر الرائد افريرجان Frerejean، مصدر سبق ذكره، ص: 378، وانظر أيضا الرائد جيليه Gillier ص: 141.
[4] ـ الطالب اخيار والشيخ مامينه، مصدر سبق ذكره، ص: 325.
[5] ـ من 13 و 14 يونيو 1908، انظر الطالب اخيار ولد الشيخ مامينه، مصدر سبق ذكره، ص: 308.
[6] ـ 15 أكتوبر 1908 انظر الطالب اخيار ولد الشيخ مامينه، مصدر سبق ذكره، ص: 329.
[7] ـ انظر الرائد افرير جان Frerejean، مصدر سبق ذكره ص: 378 حيث يقول: “أهل احجور، هذه العصابات المشهورة بالدقة في التسديد وإصابة مدافعها، ظلت تعترض سبيلنا في كل مكان من تيشيت إلى سبخت الجلد”.
انظر أيضا الرائد جيليه Gillier مصدر سبق ذكره، ص: 207 حيث يقول: “خلال السنوات الثلاثة التي اعقبت احتواءنا على آدرار، اضطرت جمالتنا إلى مواجهة، ليس فقط عصابات النهب القادمة من الشمال وإنما أيضا ضد عصابة أهل احجور من قبيلة إديشلي قاطعين للطرق، مختبئين وراء كل صخرة في الجبال لضربنا بقوة. لقد تحكمت هذه العصابة في الجبال خلال سنوات عدة مضاعفة أعدادها كلما ضُربت وذلك بانضمام حشود جديدة من مغامري الصحراء”.
[8] ـ انظر الرائد جيليه Gillier، مصدر سبق ذكره، ص: 210.
[9] ـ انظر الرائد جيليه Gillier، مصدر سبق ذكره، ص: 210.
[10] ـ انظر ديزيرى دي فيلمين G.D.Villemin، مصدر سبق ذكره، ص: 184. حيث قالت: “إن من أكبر هزائمنا تلك الهزيمة المتمثلة في الهجوم المرعب على جمالة كيفه من طرف عصابة أهل احجور وأولاد غيلان”، والواقع أن الهجوم تم من قبل مجموعة أهل احجور بمفردها لأن فريق أولاد غيلان للأسف قد تم تشتيته بعد استشهاد قادته (ابراهيم ولد مكيه ومحمد ولد لخنافر وسبعة آخرين) في معركة تيشيت في 13 يناير 1912 أي بضعة أشهر قبل ذلك. وهي المعركة التي شهدت جرح واعتقال الأمير سيد أحمد ولد أحمد عيده.
انظر الرائد جيليه Gillier، مصدر سبق ذكره، ص: 212 (إبادة جمالة كيفه المتكونة من 23 مقاتلا بقيادة الملازم دي ماسير Lt Demasser).
[11] ـ هذا المكان الموجود في الأراضي المالية ما زال حتى الآن يسمى “باعْظَمْ ولد خرخاش”.
[12] ـ انظر ديزيرى دي فيلمين G.D.Villemin، مصدر سبق ذكر، ص: 185.
[13] ـ رواية الْوَيْكُو ولد وَكَّالُو ناقلا عن والده محمد ولد وكالو الصديق والمرافق الدائم لمحمد سالم ولد سيد لكحل الذي حضر المقابلة.
[14] ـ نفس المصدر السابق.
[15] ـ المَعْنِيُّ هنا هو محمد محمود ولد سيد لكحل ولد اسويد أحمد ولد احجور الذي عاش ما بين بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر إلى نهاية عشرينيات القرن العشرين. ويجب عدم الخلط بينه وبين أخيه محمد سالم ولد سيد لكحل رئيس قبيلة أهل احجور (إديشلي) القاطنة بين آدرار وتكانت.